الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قالوا: ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158] عند من يقول: بأن المراد بذلك قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوًا كبيرًا! وومن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة: الحسن البصرس، وقصره الزمخشري في تفسيره. وقال القرطبي في تفسير سورة: البقرة: إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور: أن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وابن المسيب، وقتادة وغيرهم. وهو اختيار الشيخ أبي احسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر قوله: {إلا إبليس} اهـ. وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره: من أن كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل- كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.وأظهر الحجج في المسألة- حجة من قال: إنه غير ملك. لأن قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ} [الكهف: 50] الآية، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج عن طاعة أمر ربه. والفسق في اللغة: الخروج. ومنه قول رؤبة بن العجاج: وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه. فلا حاجة لقول من قال: إن عن سببية، كقوله: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53] أي بسببه وأن المعنى: ففسق عن أمر ربه، أي بسبب أمره حيث لم يمتثله، ولا غير ذلك من الأقوال.وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مرارًاز أي أبعد ما ظه منه من الفسق والعصيان، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء- تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلا! بئس للظالمين بدلًا من الله إبليس وذريته! وقال: {للظاليمن} لأنهم اعتاضوا الباطل من الحقن وجعلوا مكان ولايتهم لله ولا يتهم لإبليس وذريته. وها من أشنع الظلم الذي هو في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه.كما تقدم مرارًا. والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقامن وتقديره: بئس البدل من الله إبليس وذريته. وفاعل {بئس} ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو {بدلًا} على حد قوله له في الخلاصة: والبدل: العوض من الشيء، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبينًا في آيات أخر. كقوله: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا} [فاطر: 6]. وكذلك الأبوان، كما قال تعالى: {فَقُلْنَا ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117].وقد بين في غير هذا الموضع: أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلًا من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق. كقوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]. وبين في مواضع أخر أن الكفارأولياء الشيطان. كقوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت} [النساء: 76] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، وقوله تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] الآية، وقوله: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، إلى غير ذلك من الآيات.وقوله في هذه الآية الكريمة: {وذريته} دليل على أن للشيطان ذرية. فادعاء أن لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى. وكا ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك! ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره. لا دليل عليها من نص صريح، والعلماء مختلفون فيها. وقال الشعبي: سالني الرجل: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهدع! ثم ذكرت قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي} فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زجة فقلت: نعم. وما فهمه الشعبي من هذه الآبة من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قادة. وقال مجاهد: إن كيفية وجود النسب منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات: قال: فهذا أصل ذريته. وقال بعض أهل العلم: إن الله تعالى خلق له في فخده اليمنى ذكرًا، وفي اليسرى فرجًا، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانًا وشيطانة. ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة. فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية. أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح، ومثله لا يعرف بالرأي. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميري في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني: أنه خرج في كتابه مسندًا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ، من رواية عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاتكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فيها باض الشيطان وفرخ» وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه.قال مقيدة عفا الله عنه: هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك. هل هي من أنثى هي زوجة له، أو من غير ذلك. مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلوا من احتمال. لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل. فيحتمل معنى باض وفرخ على سبيل المثل؛ فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل، لأن الأمثال لا تغير ألفاظها. وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولالده ووظائفهم التي قلدهم إياها؛ كقوله: زلنبور صاحب الأسواق. وتبر صاحب الماصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الأخبار يلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلًا. وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم اله بصره ما لم يرفع من المتاع ما ملم يحسن موضعه يثير شره على أهله. وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. والولهان صاحب الطهارة يوسوس فيها والأقيس صاحب الصلاة يوسوس فيها ومرة صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووزائفهم- كله لا معول عليه؛ إلا ما ثبت منه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن خلف الباهلي، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء: أن عثمان بن أبي العاص أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال:: يا رسول الله، إن الشطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك شيطان يقال له خنرب. فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثًا» قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.وتحريس الشيطان بين الناس وكون إبليس يضع عرشه على البحر، ويبعث سرايا فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة- كل ذلك معروف ثابت في الصحيح. والعلم عند الله تعالى. اهـ.
|